فصل: سورة المزمل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


سورة الحاقة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 23‏]‏

‏{‏الْحَاقَّةُ ‏(‏1‏)‏ مَا الْحَاقَّةُ ‏(‏2‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ‏(‏3‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ‏(‏4‏)‏ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ‏(‏5‏)‏ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ‏(‏6‏)‏ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ‏(‏7‏)‏ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ‏(‏8‏)‏ وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ ‏(‏9‏)‏ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ‏(‏10‏)‏ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ‏(‏11‏)‏ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ‏(‏12‏)‏ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ‏(‏13‏)‏ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ‏(‏14‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ‏(‏15‏)‏ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ‏(‏16‏)‏ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ‏(‏17‏)‏ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ‏(‏18‏)‏ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ‏(‏19‏)‏ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ‏(‏20‏)‏ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ‏(‏21‏)‏ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ‏(‏22‏)‏ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏الحاقة‏}‏ الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء التي هي آتية لا ريب فيها، من حق يحق بالكسر أي وجب ‏{‏مَا الحاقة‏}‏ مبتدأ وخبر وهما خبر ‏{‏الحاقة‏}‏ والأصل الحاقة ما هي أي أيّ شيء هي تفخيماً لشأنها وتعظيماً لهولها أي حقها أن يستفهم عنها لعظمها، فوضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التهويل ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ‏}‏ وأي شيء أعلمك ‏{‏مَا الحاقة‏}‏ يعني أنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها، لأنه من العظم والشدة بحيث لا تبلغه دراية المخلوقين‏.‏ و«ما» رفع بالابتداء و‏{‏أَدْرَاكَ‏}‏ الخبر، والجملة بعده في موضع نصب لأنها مفعول ثانٍ ل «أدرى» ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة‏}‏ أي بالحاقة فوضعت القارعة موضعها لأنها من أسماء القيامة، وسميت بها لأنها تقرع الناس بالأفزاع والأهوال‏.‏ ولما ذكرها وفخمها أتبع ذكر ذلك ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم‏.‏

‏{‏فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية‏}‏ بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة‏.‏ واختلف فيها فقيل الرجفة، وقيل الصيحة، وقيل الطاغية مصدر كالعافية أي بطغيانهم، ولكن هذا لا يطابق قوله ‏{‏وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ‏}‏ أي بالدبور لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ‏"‏ ‏{‏صَرْصَرٍ‏}‏ شديدة الصوت من الصرة الصيحة، أو باردة من الصر كأنها التي كرر فيها البرد وكثر فهي تحرق بشدة بردها ‏{‏عَاتِيَةٍ‏}‏ شديد العصف أو عتت على خزانها فلم يضبطوها بإذن الله غضباً على أعداء الله ‏{‏سَخَّرَهَا‏}‏ سلطها ‏{‏عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وثمانية أَيَّامٍ‏}‏ وكان ابتداء العذاب يوم الأربعاء آخر الشهر إلى الأربعاء الأخرى ‏{‏حُسُوماً‏}‏ أي متتابعة لا تنقطع جمع حاسم كشهود تمثيلاً لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء بعد أخرى حتى ينحسم، وجاز أن يكون مصدراً أي تحسم حسوماً بمعنى تستأصل استئصالاً ‏{‏فَتَرَى‏}‏ أيها المخاطب ‏{‏القوم فِيهَا‏}‏ في مهابها أو في الليالي والأيام ‏{‏صرعى‏}‏ حال جمع صريع ‏{‏كَأَنَّهُمْ‏}‏ حال أخرى ‏{‏أَعْجَازُ‏}‏ أصول ‏{‏نَخْلٍ‏}‏ جمع نخلة ‏{‏خَاوِيَةٍ‏}‏ ساقطة أو بالية ‏{‏فَهَلْ ترى لَهُم مّن بَاقِيَةٍ‏}‏ من نفس باقية أو من بقاء كالطاغية بمعنى الطغيان‏.‏

‏{‏وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ‏}‏ ومن تقدمه من الأمم ‏{‏وَمِن قَبْلِهِ‏}‏ بصري وعلي أي ومن عنده من أتباعه ‏{‏والمؤتفكات‏}‏ قرى قوم لوط فهي ائتفكت أي انقلبت بهم ‏{‏بِالْخَاطِئَةِ‏}‏ بالخطأ أو بالفعلة أو بالأفعال ذات الخطأ العظيم ‏{‏فَعَصَوْاْ‏}‏ أي قوم لوط ‏{‏رَسُولَ رَبّهِمْ‏}‏ لوطاً ‏{‏فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً‏}‏ شديدة زائدة في الشدة كما زادت قبائحهم في القبح ‏{‏إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء‏}‏ ارتفع وقت الطوفان على أعلى جبل في الدنيا خمسة عشر ذراعاً ‏{‏حملناكم‏}‏ أي آباءكم ‏{‏فِى الجارية‏}‏ في سفينة نوح عليه السلام ‏{‏لِنَجْعَلَهَا‏}‏ أي الفعلة وهي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين ‏{‏لَكُمْ تَذْكِرَةً‏}‏ عبرة وعظة ‏{‏وَتَعِيَهَا‏}‏ وتحفظها ‏{‏أُذُنٌ‏}‏ بضم الذال‏:‏ غير نافع ‏{‏واعية‏}‏ حافظة لما تسمع‏.‏

قال قتادة‏:‏ وهي أذن عقلت عن الله وانتفعت بما سمعت‏.‏

‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور نَفْخَةٌ واحدة‏}‏ هي النفخة الأولى ويموت عندها الناس، والثانية يبعثون عندها ‏{‏وَحُمِلَتِ الأرض والجبال‏}‏ رفعتا عن موضعهما ‏{‏فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة‏}‏ دقتا وكسرتا أي ضرب بعضها ببعض حتى تندق وترجع كثيباً مهيلاً وهباء منبثاً ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ‏}‏ فحينئذ ‏{‏وَقَعَتِ الواقعة‏}‏ نزلت النازلة وهي القيامة، وجواب «إذا» ‏{‏وَقَعَتِ‏}‏ و‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ بدل من «إذا» ‏{‏وانشقت السماء‏}‏ فتّحت أبواباً ‏{‏فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ‏}‏ مسترخية ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة ‏{‏والملك‏}‏ للجنس بمعنى الجمع وهو أعم من الملائكة ‏{‏على أَرْجَائِهَا‏}‏ جوانبها واحدها رجا مقصور لأنها إذا انشقت وهي مسكن الملائكة فيلجؤن إلى أطرافها ‏{‏وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ‏}‏ فوق الملك الذين على أرجائها ‏{‏يَوْمَئِذٍ ثمانية‏}‏ منهم، واليوم تحمله أربعة وزيدت أربعة أخرى يوم القيامة‏.‏ وعن الضحاك‏:‏ ثمانية صفوف‏.‏ وقيل‏:‏ ثمانية أصناف‏.‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ‏}‏ للحساب، والسؤال شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرّف أحواله ‏{‏لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ‏}‏ سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا‏.‏ وبالياء‏:‏ كوفي غير عاصم‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات‏:‏ فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعندها تطير الصحف فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله ‏"‏ ‏{‏فَأَمَّا‏}‏ تفصيل للعرض ‏{‏مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ‏}‏ سروراً به لما يرى فيه من الخيرات خطاباً لجماعته ‏{‏هَاؤُمُ‏}‏ اسم للفعل أي خذوا ‏{‏اقرؤا كتابيه‏}‏ تقديره هاؤم كتابي اقرؤا كتابيه فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، والعامل في ‏{‏كتابيه‏}‏ ‏{‏اقرءوا‏}‏ عند البصريين لأنهم يعملون الأقرب‏.‏ والهاء في ‏{‏كتابيه‏}‏ و‏{‏حِسَابِيَهْ‏}‏ و‏{‏مَالِيَهْ‏}‏ و‏{‏سلطانيه‏}‏ للسكت، وحقها أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل، وقد استحب إيثار الوقف إيثاراً لثباتها لثبوتها في المصحف ‏{‏إِنّى ظَنَنتُ‏}‏ علمت‏.‏ وإنما أجرى الظن مجرى العلم، لأن الظن الغالب يقوم مقام العلم في العادات والأحكام، ولأن ما يدرك بالاجتهاد فلما يخلو عن الوسواس والخواطر وهي تفضي إلى الظنون، فجاز إطلاق لفظ الظن عليها لما لا يخلو عنه ‏{‏أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ‏}‏ معاين حسابي ‏{‏فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏ ذات رضا يرضى بها صاحبها كلابن ‏{‏فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ‏}‏ رفيعة المكان أو رفيعة الدرجات أو رفيعة المباني والقصور وهو خبر بعد خبر ‏{‏قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ‏}‏ ثمارها قريبة من مريدها ينالها القائم والقاعد والمتكئ يقال لهم‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 52‏]‏

‏{‏كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ‏(‏24‏)‏ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ‏(‏25‏)‏ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ‏(‏26‏)‏ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ‏(‏27‏)‏ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ‏(‏28‏)‏ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ‏(‏29‏)‏ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ‏(‏30‏)‏ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ‏(‏31‏)‏ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ‏(‏32‏)‏ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ‏(‏33‏)‏ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏34‏)‏ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ‏(‏35‏)‏ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ‏(‏36‏)‏ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ ‏(‏37‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ‏(‏40‏)‏ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏42‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏43‏)‏ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ‏(‏44‏)‏ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ‏(‏45‏)‏ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ‏(‏46‏)‏ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ‏(‏49‏)‏ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏50‏)‏ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ‏(‏51‏)‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً‏}‏ أكلاً هنيئاً لا مكروه فيهما ولا أذى أو هنئتم هنيئاً على المصدر ‏{‏بِمَا أَسْلَفْتُمْ‏}‏ بما قدمتم من الأعمال الصالحة ‏{‏فِى الأيام الخالية‏}‏ الماضية من أيام الدنيا‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ هي في الصائمين أي كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله‏.‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُوتَ كتابيه‏}‏ لما يرى فيها من الفضائح ‏{‏وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ‏}‏ أي يا ليتني لم أعلم ما حسابي ‏{‏ياليتها‏}‏ يا ليت الموتة التي متها ‏{‏كَانَتِ القاضية‏}‏ أي القاطعة لأمري فلم أبعث بعدها ولم ألق ما ألقي ‏{‏مَا أغنى عَنِّى مَالِيَهْ‏}‏ أي لم ينفعني ما جمعته في الدنيا، ف «ما» نفي والمفعول محذوف أي شيئاً ‏{‏هَلَكَ عَنّى سلطانيه‏}‏ ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيراً ذليلاً‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ضلت عني حجتي أي بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا فيقول الله تعالى لخزنة جهنم ‏{‏خُذُوهُ فَغُلُّوهُ‏}‏ أي اجمعوا يديه إلى عنقه ‏{‏ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ‏}‏ أي أدخلوه يعني ثم لا تصلوه إلا الجحيم وهي النار العظمى، أو نصب ‏{‏الجحيم‏}‏ بفعل يفسره ‏{‏صَلُّوهُ‏}‏ ‏{‏ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا‏}‏ طولها ‏{‏سَبْعُونَ ذِرَاعاً‏}‏ بذراع الملك‏.‏ عن ابن جريج‏:‏ وقيل لا يعرف قدرها إلا الله ‏{‏فَاْسْلُكُوهُ‏}‏ فأدخلوه‏.‏ والمعنى في تقدم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية‏.‏

‏{‏إِنَّهُ‏}‏ تعليل كأنه قيل‏:‏ ما له يعذب هذا العذاب الشديد‏؟‏ فأجيب بأنه ‏{‏كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم * وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين‏}‏ على بذل طعام المسكين، وفيه إشارة إلى أنه كان لا يؤمن بالبعث لأن الناس لا يطلبون من المساكين الجزاء فيما يطعمونهم وإنما يطعمونهم لوجه الله ورجاء الثواب في الآخرة، فإذا لم يؤمن بالبعث لم يكن له ما يحمله على إطعامهم أي أنه مع كفره لا يحرّض غيره على إطعام المحتاجين، وفيه دليل قوي على عظم جرم حرمان المسكين لأنه عطفه على الكفر وجعله دليلاً عليه وقرينة له، ولأنه ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض إذا كان بهذه المنزلة فتارك الفعل أحق‏.‏ وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول‏:‏ خلعنا نصف السلسلة بالإيمان فلنخلع نصفها بهذا‏.‏ وهذه الآيات ناطقة على أن المؤمنين يرحمون جميعاً، والكافرين لا يرحمون لأنه قسّم الخلق نصفين فجعل صنفاً منهم أهل اليمين ووصفهم بالإيمان فحسب بقوله ‏{‏إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ‏}‏ وصنفاً منهم أهل الشمال ووصفهم بالكفر بقوله ‏{‏إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم‏}‏ وجاز أن الذي يعاقب من المؤمنين إنما يعاقب قبل أن يؤتى كتابه بيمينه ‏{‏فَلَيْسَ لَهُ اليوم هاهنا حَمِيمٌ‏}‏ قريب يرفع عنه ويحترق له قلبه ‏{‏وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ‏}‏ غسالة أهل النار، فعلين من الغسل، والنون زائدة وأريد به هنا ما يسيل من أبدانهم من الصديد والدم ‏{‏لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون‏}‏ الكافرون أصحاب الخطايا وخطئ الرجل إذا تعمد الذنب‏.‏

‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ‏}‏ من الأجسام والأرض والسماء‏.‏

‏{‏وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ من الملائكة والأرواح فالحاصل أنه أقسم بجميع الأشياء ‏{‏إِنَّهُ‏}‏ أي إن القرآن ‏{‏لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ أي محمد صلى الله عليه وسلم أو جبريل عليه السلام أي بقوله ويتكلم به على وجه الرسالة من عند الله ‏{‏وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ‏}‏ كما تدعون ‏{‏قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ‏}‏ كما تقولون ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ‏}‏ وبالياء فيهما‏:‏ مكي وشامي ويعقوب وسهل‏.‏ وبتخفيف الذال‏:‏ كوفي غير أبي بكر‏.‏ والقلة في معنى العدم يقال‏:‏ هذه أرض قلما تنبت أي لا تنبت أصلاً، والمعنى لا تؤمنون ولا تذكرون البتة ‏{‏تَنزِيلٌ‏}‏ هو تنزيل بياناً لأنه قول رسول نزل عليه ‏{‏مّن رّبّ العالمين ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل‏}‏ ولو ادعى علينا شيئاً لم نقله ‏{‏لأخَذْنَا مِنْهُ باليمين‏}‏ لقتلناه صبراً كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معالجة بالسخط والانتقام، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول، وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته، وخص اليمين لأن القتّال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخد بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف أخذ بيمينه، ومعنى لأخذنا منه باليمين لأخدنا بيمينه، وكذا ‏{‏ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين‏}‏ لقطعنا وتينه وهو نياط القلب إذا قطع مات صاحبه ‏{‏فَمَا مِنكُم‏}‏ الخطاب للناس أو للمسلمين ‏{‏مّنْ أَحَدٍ‏}‏ «من» زائدة ‏{‏عَنْهُ‏}‏ عن قتل محمد وجمع ‏{‏حاجزين‏}‏ وإن كان وصف ‏{‏أَحَدٍ‏}‏ لأنه في معنى الجماعة ومنه قوله تعالى ‏{‏لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏ ‏{‏وَإِنَّهُ‏}‏ وإن القرآن ‏{‏لِتَذْكِرَةٌ‏}‏ لعظة ‏{‏لّلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ وَإِنَّهُ‏}‏ وإن القرآن ‏{‏لَحَسْرَةٌ عَلَى الكافرين‏}‏ به المكذبين له إذا رأوا ثواب المصدقين به ‏{‏وَإِنَّهُ‏}‏ وإن القرآن ‏{‏لَحَقُّ اليقين‏}‏ لعين اليقين ومحض اليقين ‏{‏فَسَبِّحْ باسم رَبّكَ العظيم‏}‏ فسبح الله بذكر اسمه العظيم وهو قوله سبحان الله‏.‏

سورة المعارج

مكية وهي أربع وأربعون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 18‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ‏(‏1‏)‏ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ‏(‏2‏)‏ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ‏(‏3‏)‏ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ‏(‏4‏)‏ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ‏(‏6‏)‏ وَنَرَاهُ قَرِيبًا ‏(‏7‏)‏ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ‏(‏8‏)‏ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ‏(‏9‏)‏ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ‏(‏10‏)‏ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ‏(‏11‏)‏ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ‏(‏12‏)‏ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ‏(‏13‏)‏ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ‏(‏14‏)‏ كَلَّا إِنَّهَا لَظَى ‏(‏15‏)‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ‏(‏16‏)‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ‏(‏17‏)‏ وَجَمَعَ فَأَوْعَى ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏سَأَلَ سَآئِلٌ‏}‏ هو النضر بن الحرث قال‏:‏ ‏{‏إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ أو هو النبي صلى الله عليه وسلم دعا بنزول العذاب عليهم‏.‏ ولما ضمن سأل معنى دعا عدى تعديته كأنه قيل‏:‏ دعا داع ‏{‏بِعَذَابٍ وَاقِعٍ‏}‏ من قولك‏:‏ دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فاكهة‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 55‏]‏‏.‏ و‏{‏سال‏}‏ بغير همز‏:‏ مدني وشامي وهو من السؤال أيضاً إلا أنه خفف بالتليين و‏{‏سَائِلٌ‏}‏ مهموز إجماعاً ‏{‏للكافرين‏}‏ صفة ل ‏{‏عَذَابِ‏}‏ أي بعذاب واقع كائن للكافرين ‏{‏لَيْسَ لَهُ‏}‏ لذلك العذاب ‏{‏دَافِعٌ‏}‏ راد ‏{‏مِّنَ الله‏}‏ متصل بواقع أي واقع من عنده أو بدافع أي ليس له دافع من جهته تعالى إذا جاء وقته ‏{‏ذِي المعارج‏}‏ أي مصاعد السماء للملائكة جمع معرج وهو موضع العروج‏.‏ ثم وصف المصاعد وبعد مداها في العلو والارتفاع فقال ‏{‏تَعْرُجُ‏}‏ تصعد‏.‏ وبالياء‏:‏ علي ‏{‏الملائكة والروح‏}‏ أي جبريل عليه السلام خصه بالذكر بعد العموم لفضله وشرفه، أو خلق هم حفظة على الملائكة كما أن الملائكة حفظة علينا، أو أرواح المؤمنين عند الموت ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ إلى عرشه ومهبط أمره ‏{‏فِى يَوْمٍ‏}‏ من صلة تعرج ‏{‏كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ من سني الدنيا لو صعد فيه غير الملك، أو «من» صلة ‏{‏وَاقِعٍ‏}‏ أي يقع في يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة من سنيكم وهو يوم القيامة، فإما أن يكون استطالة له لشدته على الكفار، أو لأنه على الحقيقة كذلك فقد قيل فيه خمسون موطناً كل موطن ألف سنة، وما قدر ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر‏.‏

‏{‏فاصبر‏}‏ متعلق ب ‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ‏}‏ لأن استعجال النضر بالعذاب إنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم والتكذيب بالوحي، وكان ذلك مما يضجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بالصبر عليه ‏{‏صَبْراً جَمِيلاً‏}‏ بلا جزع ولا شكوى ‏{‏إِنَّهُمْ‏}‏ إن الكفار ‏{‏يَرَوْنَهُ‏}‏ أي العذاب أو يوم القيامة ‏{‏بَعِيداً‏}‏ مستحيلاً ‏{‏وَنَرَاهُ قَرِيباً‏}‏ كائناً لا محالة، فالمراد بالبعيد من الإمكان وبالقريب القريب منه‏.‏ نصب ‏{‏يَوْمَ تَكُونُ السماء‏}‏ ب ‏{‏قَرِيبًا‏}‏ أي يمكن في ذلك اليوم أو هو بدل عن ‏{‏فِى يَوْمٍ‏}‏ فيمن علقه ب ‏{‏وَاقِعٍ‏}‏ ‏{‏كالمهل‏}‏ كدردي الزيت أو كالفضة المذابة في تلونها ‏{‏وَتَكُونُ الجبال كالعهن‏}‏ كالصوف المصبوغ ألواناً لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، فإذا بست وطيرت في الجو اشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح ‏{‏وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً‏}‏ لا يسأل قريب عن قريب لاشتغاله بنفسه‏.‏

وعن البزي والبرجمي‏:‏ بضم الياء أي ولا يسأل قريب عن قريب أي لا يطالب به ولا يؤخذ بذنبه‏.‏

‏{‏يُبَصَّرُونَهُمْ‏}‏ صفة أي حميماً مبصرين معرفين إياهم، أو مستأنف كأنه لما قال ‏{‏وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً‏}‏ قيل‏:‏ لعله لا يبصره‏.‏ فقيل‏:‏ يبصرونهم ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا من تساؤلهم‏.‏ والواو ضمير الحميم الأول و«هم» ضمير الحميم الثاني أي يبصر الأحماء الأحماء فلا يخفون عليهم‏.‏ وإنما جمع الضميران وهما للحميمين لأن فعيلاً يقع موقع الجمع ‏{‏يَوَدُّ المجرم‏}‏ يتمنى المشرك وهو مستأنف، أو حال من الضمير المرفوع، أو المنصوب من ‏{‏يُبَصَّرُونَهُمْ‏}‏ ‏{‏لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ‏}‏ وبالفتح‏:‏ مدني وعلي على البناء للإضافة إلى غير متمكن ‏{‏بِبَنِيهِ * وصاحبته‏}‏ وزوجته ‏{‏وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ‏}‏ وعشيرته الأدنين ‏{‏التى تُئْوِيهِ‏}‏ تضمه انتماء إليها‏.‏ وبغير همز‏:‏ يزيد‏.‏ ‏{‏وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً‏}‏ من الناس ‏{‏ثُمَّ يُنجِيهِ‏}‏ الافتداء عطف على ‏{‏يفتدى‏}‏‏.‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع للمجرم عن الودادة وتنبيه على أنه لا ينفعه الافتداء ولا ينجيه من العذاب ‏{‏إِنَّهَا‏}‏ إن النار، ودل ذكر العذاب عليها، أو هو ضمير مبهم ترجم عنه الخبر أو ضمير القصة ‏{‏لظى‏}‏ علم للنار ‏{‏نَزَّاعَةً‏}‏ حفص والمفضل على الحال المؤكدة، أو على الاختصاص للتهويل‏.‏ وغيرهما بالرفع خبر بعد خبر ل «إن» أو على «هي نزاعة» ‏{‏للشوى‏}‏ لأطراف الإنسان كاليدين والرجلين، أو جمع شواة وهي جلدة الرأس تنزعها نزعاً فتفرقها ثم تعود إلى ما كانت ‏{‏تَدْعُواْ‏}‏ بأسمائهم يا كافر يا منافق إليّ إليّ، أو تهلك من قولهم دعاك الله أي أهلكك، أو لما كان مصيره إليها جعلت كأنها دعته ‏{‏مَنْ أَدْبَرَ‏}‏ عن الحق ‏{‏وتولى‏}‏ عن الطاعة ‏{‏وَجَمَعَ‏}‏ المال ‏{‏فَأَوْعَى‏}‏ فجعله في وعاء ولم يؤد حق الله منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 44‏]‏

‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ‏(‏19‏)‏ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ‏(‏21‏)‏ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ‏(‏22‏)‏ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ‏(‏23‏)‏ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ‏(‏24‏)‏ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ‏(‏25‏)‏ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏26‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ‏(‏27‏)‏ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ‏(‏28‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏(‏29‏)‏ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ‏(‏30‏)‏ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ‏(‏31‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ‏(‏32‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ‏(‏33‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏34‏)‏ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ‏(‏35‏)‏ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ‏(‏36‏)‏ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ‏(‏37‏)‏ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ‏(‏38‏)‏ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ‏(‏40‏)‏ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ‏(‏41‏)‏ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏42‏)‏ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ‏(‏43‏)‏ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الإنسان‏}‏ أريد به الجنس ليصح استثناء المصلين منه ‏{‏خُلِقَ هَلُوعاً‏}‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ تفسيره ما بعده ‏{‏إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً‏}‏ والهلع‏:‏ سرعة الجزع عند مس المكروه وسرعة المنع عند مس الخير‏.‏ وسأل محمد بن عبد الله بن طاهر ثعلباً عن الهلع فقال‏:‏ قد فسره الله تعالى ولا يكون تفسير أبين من تفسيره، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس، وهذا طبعه وهو مأمور بمخالفة طبعه وموافقة شرعه‏.‏ والشر‏:‏ الضر والفقر‏.‏ والخير‏:‏ السعة والغنى أو المرض والصحة ‏{‏إِلاَّ المصلين * الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ‏}‏ أي صلواتهم الخمس ‏{‏دَائِمُونَ‏}‏ أي يحافظون عليها في مواقيتها‏.‏ وعن ابن مسعود رضي الله عنه ‏{‏والذين فِى أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ‏}‏ يعني الزكاة لأنها مقدرة معلومة أو صدقة يوظفها الرجل على نفسه يؤديها في أوقات معلومة ‏{‏لَّلسَّائِلِ‏}‏ الذي يسأل ‏{‏والمحروم‏}‏ الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنياً فيحرم ‏{‏والذين يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدين‏}‏ أي يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة ‏{‏والذين هُم مّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ‏}‏ خائفون‏.‏ واعترض بقوله ‏{‏إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ‏}‏ بالهمز‏:‏ سوى أبي عمرو أي لا ينبغي لأحد وإن بالغ في الاجتهاد والطاعة أن يأمنه وينبغي أن يكون مترجحاً بين الخوف والرجاء‏.‏

‏{‏والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون * إِلاَّ على أزواجهم‏}‏ نسائهم ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم‏}‏ أي إمائهم ‏{‏فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ‏}‏ على ترك الحفظ ‏{‏فَمَنِ ابتغى‏}‏ طلب منكحاً ‏{‏وَرَآءَ ذلك‏}‏ أي غير الزوجات والمملوكات ‏{‏فأولئك هُمُ العادون‏}‏ المتجاوزون عن الحلال والحرام‏.‏ وهذه الآية تدل على حرمة المتعة ووطء الذكران والبهائم والاستمناء بالكف ‏{‏والذين هُمْ لأماناتهم‏}‏ ‏{‏لأمانتهم‏}‏ مكي، وهي تتناول أمانات الشرع وأمانات العباد ‏{‏وَعَهْدِهِمْ‏}‏ أي عهودهم ويدخل فيها عهود الخلق والنذور والأيمان ‏{‏راعون‏}‏ حافظون غير خائنين ولا ناقضين‏.‏ وقيل‏:‏ الأمانات ما تدل عليه العقول والعهد ما أتى به الرسول‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ بشهاداتهم‏}‏ ‏{‏بشهادتهم‏}‏ سهل‏.‏ وبالألف‏:‏ حفص وسهل ويعقوب‏.‏ ‏{‏قَائِمُونَ‏}‏ يقيمونها عند الحكام بلا ميل إلى قريب وشريف وترجيح للقوي على الضعيف إظهاراً للصلابة في الدين ورغبة في إحياء حقوق المسلمين ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏}‏ كرر ذكر الصلاة لبيان أنها أهم، أو لأن إحداهما للفرائض والأخرى للنوافل‏.‏ وقيل‏:‏ الدوام عليها الاستكثار منها والمحافظة عليها أن لا تضيع عن مواقيتها، أو الدوام عليها أداؤها في أوقاتها والمحافظة عليها حفظ أركانها وواجباتها وسننها وآدابها ‏{‏أولئك‏}‏ أصحاب هذه الصفات ‏{‏فِى جنات مُّكْرَمُونَ‏}‏ هما خبران‏.‏

‏{‏فَمَالِ‏}‏ كتب مفصولاً اتباعاً لمصحف عثمان رضي الله عنه ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ‏}‏ نحوك معمول ‏{‏مُهْطِعِينَ‏}‏ مسرعين حال من ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ ‏{‏عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال‏}‏ عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن شماله ‏{‏عِزِينَ‏}‏ حال أي فرقاً شتى جمع عزة وأصلها عزوة كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزى إليه الأخرى فهم مفترقون‏.‏ كان المشركون يحتفّون حول النبي صلى الله عليه وسلم حلقاً حلقاً وفرقاً فرقاً يستمعون ويستهزئون بكلامه ويقولون‏:‏ إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم فنزلت ‏{‏أَيَطْمَعُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ‏}‏ بضم الياء وفتح الخاء‏:‏ سوى المفضل ‏{‏جَنَّةَ نَعِيمٍ‏}‏ كالمؤمنين ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع لهم عن طمعهم في دخول الجنة ‏{‏إِنَّا خلقناهم مّمَّا يَعْلَمُونَ‏}‏ أي من النطفة المذرة ولذلك أبهم إشعاراً بأنه منصب يستحيا من ذكره، فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم، ويقولون لندخلن الجنة قبلهم‏؟‏ أو معناه‏:‏ إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بني آدم كلهم، ومن حكمنا أن لا يدخل أحد الجنة إلا بالإيمان فلم يطمع أن يدخلها من لا إيمان له ‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق‏}‏ مطالع الشمس ‏{‏والمغارب‏}‏ ومغاربها ‏{‏إِنَّا لقادرون * على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مّنْهُمْ‏}‏ على أن نهلكهم ونأتي بخلق أمثل منهم وأطوع لله ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ‏}‏ بعاجزين‏.‏

‏{‏فَذَرْهُمْ‏}‏ فدع المكذبين ‏{‏يَخُوضُواْ‏}‏ في باطلهم ‏{‏وَيَلْعَبُواْ‏}‏ في دنياهم ‏{‏حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى يُوعَدُونَ‏}‏ فيه العذاب ‏{‏يَوْمَ‏}‏ بدل من ‏{‏يَوْمَهُمُ‏}‏ ‏{‏يَخْرُجُونَ‏}‏ بفتح الياء وضم الراء‏:‏ سوى الأعشى ‏{‏مّنَ الأجداث‏}‏ القبور ‏{‏سِرَاعاً‏}‏ جمع سريع حال أي إلى الداعي ‏{‏كَأَنَّهُمْ‏}‏ حال ‏{‏إلى نُصُبٍ‏}‏ شامي وحفص وسهل ‏{‏نُصُبٍ‏}‏ المفضل‏.‏ ‏{‏نَصَبٌ‏}‏ غيرهم وهو كل ما نصب وعبد من دون الله ‏{‏يُوفِضُونَ‏}‏ يسرعون ‏{‏خاشعة‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يُخْرِجُونَ‏}‏ أي ذليلة ‏{‏أبصارهم‏}‏ يعني لا يرفعونها لذلتهم ‏{‏تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ‏}‏ يغشاهم هوان ‏{‏ذَلِكَ اليوم الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ‏}‏ في الدنيا وهم يكذبون به‏.‏

سورة نوح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 28‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏2‏)‏ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ‏(‏3‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ‏(‏5‏)‏ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ‏(‏6‏)‏ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ‏(‏9‏)‏ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ‏(‏10‏)‏ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ‏(‏11‏)‏ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ‏(‏12‏)‏ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ‏(‏13‏)‏ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ‏(‏14‏)‏ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا ‏(‏15‏)‏ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ‏(‏16‏)‏ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ‏(‏18‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ‏(‏19‏)‏ لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ‏(‏20‏)‏ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏21‏)‏ وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ‏(‏22‏)‏ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ‏(‏23‏)‏ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ‏(‏24‏)‏ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ‏(‏27‏)‏ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً‏}‏ قيل‏:‏ معناه بالسريانية الساكن ‏{‏إلى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ‏}‏ خوّف أصله بأن أنذر فحذف الجار وأوصل الفعل‏.‏ ومحله عند الخليل جر، وعند غيره نصب، أو «أن» مفسرة بمعنى «أي» لأن في الإرسال معنى القول ‏{‏قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ عذاب الآخرة أو الطوفان ‏{‏قَالَ ياقوم‏}‏ أضافهم إلى نفسه إظهاراً للشفقة ‏{‏إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ‏}‏ مخوف ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ أبين لكم رسالة الله بلغة تعرفونها ‏{‏أَنِ اعبدوا الله‏}‏ وحدوه و«أن» هذه نحو ‏{‏أَنْ أَنذِرِ‏}‏ في الوجهين ‏{‏واتقوه‏}‏ واحذروا عصيانه ‏{‏وَأَطِيعُونِ‏}‏ فيما آمركم به وأنهاكم عنه، وإنما اضافه إلى نفسه لأن الطاعة قد تكون لغير الله تعالى بخلاف العبادة ‏{‏يَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ جواب الأمر ‏{‏مّن ذُنُوبِكُمْ‏}‏ للبيان كقوله‏:‏ ‏{‏فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏‏.‏ أو للتبعيض لأن ما يكون بينه وبين الخلق يؤاخذ به بعد الإسلام كالقصاص وغيره كذا في شرح التأويلات‏.‏ ‏{‏وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ وهو وقت موتكم ‏{‏إِنَّ أَجَلَ الله‏}‏ أي الموت ‏{‏إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي لو كنتم تعلمون ما يحل بكم من الندامة عند انقضاء أجلكم لآمنتم‏.‏ قيل‏:‏ إن الله تعالى قضى مثلاً أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة وإن لم يؤمنوا أهلكهم على رأس تسعمائة، فقيل لهم‏:‏ آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى أي تبلغوا ألف سنة، ثم أخبر أن الأجل إذا جاء لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم كانوا يخافون على أنفسهم الإهلاك من قومهم بإيمانهم وإجابتهم لنوح عليه السلام، فكأنه عليه السلام أمّنهم من ذلك ووعدهم أنهم بإيمانهم يبقون إلى الأجل الذي ضرب لهم لو لم يؤمنوا أي أنكم إن أسلمتم بقيتم إلى أجل مسمى آمنين من عدوكم‏.‏

‏{‏قَالَ رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً‏}‏ دائباً بلا فتور ‏{‏فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلاَّ فِرَاراً‏}‏ عن طاعتك، ونسب ذلك إلى دعائه لحصوله عنده وإن لم يكن الدعاء سبباً للفرار في الحقيقة وهو كقوله‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 125‏]‏‏.‏ والقرآن لا يكون سبباً لزيادة الرجس وكان الرجل يذهب بابنه إلى نوح عليه السلام فيقول‏:‏ احذر هذا فلا يغرنك فإن أبي قد وصاني به ‏{‏وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ‏}‏ إلى الإيمان بك ‏{‏لِتَغْفِرَ لَهُمْ‏}‏ أي ليؤمنوا فتغفر لهم فاكتفى بذكر المسبب ‏{‏جَعَلُواْ أصابعهم فِى * ءاذَانِهِمْ‏}‏ سدوا مسامعهم لئلا يسمعوا كلامي ‏{‏واستغشوا ثِيَابَهُمْ‏}‏ وتغطوا بثيابهم لئلا يبصرون كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله ‏{‏وَأَصَرُّواْ‏}‏ وأقاموا على كفرهم ‏{‏واستكبروا استكبارا‏}‏ وتعظموا عن إجابتي، وذكر المصدر دليل على فرط استكبارهم‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جهارا‏}‏ مصدر في موضع الحال أي مجاهراً، أو مصدر دعوتهم ك «قعد القرفصاء» لأن الجهار أحد نوعي الدعاء يعني أظهرت لهم الدعوة في المحافل ‏{‏ثُمَّ إِنّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً‏}‏ أي خلطت دعاءهم بالعلانية بدعاء السر، فالحاصل أنه دعاهم ليلاً ونهاراً في السر، ثم دعاهم جهاراً، ثم دعاهم في السر والعلن، وهكذا يفعل الآمر بالمعروف يبتدئ بالأهون ثم بالأشد فالأشد، فافتتح بالمناصحة في السر فلما لم يقبلوا ثنّى بالمجاهرة، فلما لم تؤثر ثلّث بالجمع بين الإسرار والإعلان‏.‏ و«ثُم» تدل على تباعد الأحوال لأن الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما‏.‏

‏{‏فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ‏}‏ من الشرك لأن الاستغفار طلب المغفرة، فإن كان المستغفر كافراً فهو من الكفر، وإن كان عاصياً مؤمناً فهو من الذنوب ‏{‏إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً‏}‏ لم يزل غفاراً لذنوب من ينيب إليه ‏{‏يُرْسِلِ السماء‏}‏ المطر ‏{‏عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً‏}‏ كثيرة الدرور ومفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث ‏{‏وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ‏}‏ يزدكم أموالاً وبنين ‏{‏وَيَجْعَل لَّكُمْ جنات‏}‏ بساتين ‏{‏وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً‏}‏ جارية لمزارعكم وبساتينكم، وكانوا يحبون الأموال والأولاد فحرّكوا بهذا على الإيمان‏.‏ وقيل‏:‏ لما كذبوه بعد طول تكرير الدعوة حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة أو سبعين، فوعدهم أنهم إن آمنوا رزقهم الله الخصب ورفع عنهم ما كانوا فيه‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه أنه خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار فقيل له‏:‏ ما رأيناك استسقيت‏!‏ فقال‏:‏ لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر‏.‏ شبه عمر الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطئ وقرأ الآيات‏.‏ وعن الحسن أن رجلاً شكا إليه الجدب فقال‏:‏ استغفر الله‏.‏ وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار‏.‏ فقال له الربيع بن صبيح‏:‏ أتاك رجال يشكون أبواباً فأمرتهم كلهم بالاستغفار فتلا الآيات‏.‏

‏{‏مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً‏}‏ لا تخافون لله عظمة‏.‏ عن الأخفش قال‏:‏ والرجاء هنا الخوف لأن مع الرجاء طرفاً من الخوف ومن اليأس والوقار العظمة، أو لا تأملون له توقيراً أي تعظيماً‏.‏ والمعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب ‏{‏وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً‏}‏ في موضع الحال أي ما لكم لا تؤمنون بالله والحال هذه، وهي حال موجبة للإيمان به لأنه خلقكم أطواراً أي تارات وكرّاتٍ خلقكم أولاً نطفاً ثم خلقكم علقاً ثم خلقكم مضغاً ثم خلقكم عظاماً ولحماً، نبههم أولاً على النظر في أنفسكم لأنها أقرب، ثم على النظر في العالم وما سوّى فيه من العجائب الدالة على الصانع بقوله ‏{‏أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً‏}‏ بعضاً على بعض ‏{‏وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً‏}‏ أي في السماوات وهو في السماء الدنيا، لأن بين السماوات ملابسة من حيث إنها طباق وجاز أن يقال فيهن كذا وإن لم يكن في جميعهن كما يقال‏:‏ في المدينة كذا وهو في بعض نواحيها‏.‏

وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم‏.‏ أن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماوات، وظهورهما مما يلي الأرض، فيكون نور القمر محيطاً بجميع السماوات لأنها لطيفة لا تحجب نوره ‏{‏وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً‏}‏ مصباحاً يبصر أهل الدنيا في ضوئها كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره، وضوء الشمس أقوى من نور القمر، وأجمعوا على أن الشمس في السماء الرابعة ‏{‏والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض‏}‏ أنشأكم استعير الإنبات للإنشاء ‏{‏نَبَاتاً‏}‏ فنبتم نباتاً ‏{‏ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا‏}‏ بعد الموت ‏{‏وَيُخْرِجُكُمْ‏}‏ يوم القيامة ‏{‏إِخْرَاجاً‏}‏ أكده بالمصدر أي أيّ إخراج ‏{‏والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً‏}‏ مبسوطة ‏{‏لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا‏}‏ لتتقلبوا عليها كما يتقلب الرجل على بساطه ‏{‏سُبُلاً‏}‏ طرقاً ‏{‏فِجَاجاً‏}‏ واسعة أو مختلفة‏.‏

‏{‏قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى‏}‏ فيما أمرتهم به من الإيمان والاستغفار ‏{‏واتبعوا‏}‏ أي السفلة والفقراء ‏{‏مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ‏}‏ أي الرؤساء وأصحاب الأموال والأولاد ‏{‏وَوُلْده‏}‏ مكي وعراقي غير عاصم وهو جمع ولد كأسد وأسد ‏{‏إَلاَّ خَسَارًا‏}‏ في الآخرة‏.‏

‏{‏وَمَكَرُواْ‏}‏ معطوف على ‏{‏لَّمْ يَزِدْهُ‏}‏ وجمع الضمير وهو راجع إلى «من» لأنه في معنى الجمع‏.‏ والماكرون هم الرؤساء، ومكرهم احتيالهم في الدنيا وكيدهم لنوح وتحريش الناس على أذاه وصدهم عن الميل إليه ‏{‏مَكْراً كُبَّاراً‏}‏ عظيماً وهو أكبر من الكبار وقرئ به وهو أكبر من الكبير ‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ أي الرؤساء لسفلتهم ‏{‏لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ‏}‏ على العموم أي عبادتها ‏{‏وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً‏}‏ بفتح الواو وضمها وهو قراءة نافع، لغتان‏:‏ صنم على صورة رجل ‏{‏وَلاَ سُوَاعاً‏}‏ هو على صورة امرأة ‏{‏وَلاَ يَغُوثَ‏}‏ هو على صورة أسد ‏{‏وَيَعُوقَ‏}‏ هو على صورة فرس وهما لا ينصرفان للتعريف ووزن الفعل إن كانا عربيين، وللتعريف والعجمة إن كانا أعجميين ‏{‏وَنَسْراً‏}‏ هو على صورة نسر أي هذه الأصنام الخمسة على الخصوص، وكأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم فخصوها بعد العموم، وقد انتقلت هذه الأصنام عن قوم نوح إلى العرب؛ فكان ود لكلب، وسواع لهمدان، ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير‏.‏ وقيل‏:‏ هي أسماء رجال صالحين كان الناس يقتدون بهم بين آدم ونوح، فلما ماتوا صوروهم ليكون ذلك أدعى لهم إلى العبادة، فلما طال الزمان قال لهم إبليس‏:‏ إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم ‏{‏وَقَدْ أَضَلُّواْ‏}‏ أي الأصنام كقوله

‏{‏إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ‏}‏ ‏[‏ابراهيم‏:‏ 36‏]‏ ‏{‏كَثِيراً‏}‏ من الناس أو الرؤساء ‏{‏وَلاَ تَزِدِ الظالمين‏}‏ عطف على ‏{‏رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى‏}‏ على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد ‏{‏قَالَ‏}‏ وبعد الواو النائبة عنه، ومعناه قال رب إنهم عصوني وقال لا تزد الظالمين أي قال هذين القولين وهما في محل النصب لأنهما مفعولاً ‏{‏قَالَ‏}‏ ‏{‏إِلاَّ ضَلاَلاً‏}‏ هلاكاً كقوله ‏{‏وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً‏}‏ ‏{‏مّمَّا خطيئاتهم‏}‏ ‏{‏خطاياهم‏}‏ أبو عمرو أي ذنوبهم ‏{‏أُغْرِقُواْ‏}‏ بالطوفان ‏{‏فَأُدْخِلُواْ نَاراً‏}‏ عظيمة وتقديم ‏{‏مّمَّا خطيئاتهم‏}‏ لبيان أن لم يكن إغراقهم بالطوفان وإدخالهم في النيران إلا من أجل خطيئاتهم‏.‏ وأكد هذا المعنى بزيادة «ما» وكفى بها مزجرة لمرتكب الخطايا، فإن كفر قوم نوح كان واحدة من خطيئاتهم، وإن كانت كبراهن والفاء في ‏{‏فادخلوا‏}‏ للإيذان بأنهم عذبوا بالإحراق عقيب الإغراق فيكون دليلاً على إثبات عذاب القبر ‏{‏فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ الله أَنصَاراً‏}‏ ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله‏.‏

‏{‏وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً‏}‏ أي أحداً يدور في الأرض وهو فيعال من الدور وهو من الأسماء المستعملة في النفي العام ‏{‏إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ‏}‏ ولا تهلكهم ‏{‏يُضِلُّواْ عِبَادَكَ‏}‏ يدعوهم إلى الضلال ‏{‏وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً‏}‏ إلا من إذا بلغ فجر وكفر وإنما قال ذلك لأن الله تعالى أخبره بقوله‏:‏ ‏{‏لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 36‏]‏ ‏{‏رَّبّ اغفر لِى ولوالدى‏}‏ وكانا مسلمين واسم أبيه لمك، واسم أمه شمخاء، وقيل‏:‏ هما آدم وحواء وقرئ ‏{‏ولولَدَيَّ‏}‏ يريد ساماً وحاماً ‏{‏وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ‏}‏ منزلي أو مسجدي أو سفينتي ‏{‏مُؤْمِناً‏}‏ لأنه علم أن من دخل بيته مؤمناً لا يعود إلى الكفر ‏{‏وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات‏}‏ إلى يوم القيامة‏.‏ خص أولاً من يتصل به لأنهم أولى وأحق بدعائه، ثم عم المؤمنين والمؤمنات ‏{‏وَلاَ تَزِدِ الظالمين‏}‏ أي الكافرين ‏{‏إِلاَّ تَبَاراً‏}‏ هلاكاً فأهلكوا‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ دعا نوح عليه السلام بدعوتين‏:‏ إحداهما للمؤمنين بالمغفرة، وأخرى على الكافرين بالتبار، وقد أجيبت دعوته في حق الكفار بالتبار فاستحال أن لا تستجاب دعوته في حق المؤمنين‏.‏ واختلف في صبيانهم حين أغرقوا فقيل‏:‏ أعقم الله أرحام نسائهم قبل الطوفان بأربعين سنة فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا‏.‏ وقيل‏:‏ علم الله براءتهم فأهلكوا بغير عذاب والله أعلم‏.‏

سورة الجن

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا ‏(‏1‏)‏ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ‏(‏2‏)‏ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ‏(‏3‏)‏ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ‏(‏4‏)‏ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏5‏)‏ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ‏(‏6‏)‏ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ‏(‏7‏)‏ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ‏(‏8‏)‏ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد لأمتك ‏{‏أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ‏}‏ أن الأمر والشأن‏.‏ أجمعوا على فتح ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ لأنه فاعل ‏{‏أوحى‏}‏ و‏{‏أَن لَّوْ استقاموا‏}‏ و‏{‏أَن المساجد‏}‏ للعطف على ‏{‏أَنَّهُ استمع‏}‏ ف «أن» مخفقة من الثقيلة و‏{‏أَن قَدْ أَبْلَغُواْ‏}‏ لتعدي ‏{‏يَعْلَمْ‏}‏ إليها، وعلى كسر ما بعد فاء الجزاء وبعد القول نحو ‏{‏فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏{‏وَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا‏}‏ لأنه مبتدأ محكي بعد القول، واختلفوا في فتح الهمزة وكسرها من ‏{‏أَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا‏}‏ إلى ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا المسلمون‏}‏ ففتحها شامي وكوفي غير أبي بكر عطفاً على ‏{‏أَنَّهُ استمع‏}‏ أو على محل الجار والمجرور في ‏{‏آمَنا بِهِ‏}‏ تقديره‏:‏ صدقناه وصدقنا ‏{‏أَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا‏}‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا‏}‏ إلى آخرها، وكسرها غيرهم عطفاً على ‏{‏إِنَّا سَمِعْنَا‏}‏ وهم يقفون على آخر الآيات ‏{‏استمع نَفَرٌ‏}‏ جماعة من الثلاثة إلى العشرة ‏{‏مّن الجن‏}‏ جن نصيبين ‏{‏فَقَالُواْ‏}‏ لقومهم حين رجعوا إليهم من استماع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر ‏{‏إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانَاً عَجَباً‏}‏ عجيباً بديعاً مبايناً لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه‏.‏ والعجب ما يكون خارجاً عن العادة، وهو مصدر وضع موضع العجيب ‏{‏يَهْدِى إِلَى الرشد‏}‏ يدعوا إلى الصواب أو إلى التوحيد والإيمان ‏{‏فَآمَنا بِهِ‏}‏ بالقرآن‏.‏ ولما كان الإيمان به إيماناً بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك قالوا ‏{‏وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً‏}‏ من خلقه، وجاز أن يكون الضمير في ‏{‏بِهِ‏}‏ لله تعالى لأن قوله ‏{‏بِرَبّنَا‏}‏ يفسره‏.‏

‏{‏وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا‏}‏ عظمته‏.‏ يقال‏:‏ جد فلان في عيني أي عظم، ومنه قول عمر أو أنس‏:‏ كان الرجل إذ قرأ البقرة وآل عمران جد فينا أي عظم في عيوننا ‏{‏مَا اتخذ صاحبة‏}‏ زوجة ‏{‏وَلاَ وَلَداً‏}‏ كما يقول كفار الجن والإنس ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا‏}‏ جاهلنا أو إبليس إذ ليس فوقه سفيه ‏{‏عَلَى الله شَطَطاً‏}‏ كفراً لبعده عن الصواب من شطت الدار أي بعدت، أو قولاً يجوز فيه عن الحق وهو نسبة الصاحبة والولد إليه، والشطط مجاوزة الحد في الظلم وغيره ‏{‏وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً‏}‏ قولاً كذباً، أو مكذوباً فيه، أو نصب على المصدر إذ الكذب نوع من القول أي كان في ظننا أن أحداً لن يكذب على الله بنسبة الصاحبة والولد إليه فكنا نصدقهم فيما أضافوا إليه حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم؛ كان الرجل من العرب إذا نزل بمخوف من الأرض قال‏:‏ أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه يريد كبير الجن فقال ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن فَزَادوهُمْ‏}‏ أي زاد الإنس الجن باستعاذتهم بهم ‏{‏رَهَقاً‏}‏ طغياناً وسفهاً وكبراً بأن قالوا‏:‏ سدنا الجن الإنس أو فزاد الجن الإنس رهقاً إثماً لاستعاذتهم بهم، وأصل الرهق غشيان المحظور ‏{‏وَأَنَّهُمْ‏}‏ وأن الجن ‏{‏ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ‏}‏ يا أهل مكة ‏{‏أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً‏}‏ بعد الموت أي أن الجن كانوا ينكرون البعث كإنكاركم، ثم بسماع القرآن اهتدوا وأقروا بالبعث فهلا أقررتم كما أقروا‏.‏

‏{‏وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء‏}‏ طلبنا بلوغ السماء واستماع أهلها، واللمس‏.‏ المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب متعرف ‏{‏فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً‏}‏ جمعاً أقوياء من الملائكة يحرسون‏:‏ جمع حارس، ونصب على التمييز‏.‏ وقيل‏:‏ الحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام ولذا وصف بشديد ولو نظر إلى معناه لقيل شداداً ‏{‏وَشُهُباً‏}‏ جمع شهاب أي كواكب مضيئة‏.‏

‏{‏وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا‏}‏ من السماء قبل هذا ‏{‏مقاعد لِلسَّمْعِ‏}‏ لاستماع أخبار السماء يعني كنا نجد بعض السماء خالية من الحرس والشهب قبل المبعث ‏{‏فَمَن يَسْتَمِعِ‏}‏ يرد الاستماع ‏{‏الآن‏}‏ بعد المبعث ‏{‏يَجِدْ لَهُ‏}‏ لنفسه ‏{‏شِهَاباً رَّصَداً‏}‏ صفة ل ‏{‏شِهَاباً‏}‏ بمعنى الراصد أي يجد شهاباً راصداً له ولأجله، أو هو اسم جمع للراصد على معنى ذوي شهاب راصدين بالرجم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع، والجمهور على أن ذلك لم يكن قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ كان الرجم في الجاهلية ولكن الشياطين كانت تسترق السمع في بعض الأوقات فمنعوا من الاستراق أصلاً بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 28‏]‏

‏{‏وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ‏(‏10‏)‏ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ‏(‏11‏)‏ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا ‏(‏12‏)‏ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ‏(‏13‏)‏ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ‏(‏14‏)‏ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ‏(‏15‏)‏ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ‏(‏16‏)‏ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ‏(‏17‏)‏ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ‏(‏18‏)‏ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ‏(‏19‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ‏(‏20‏)‏ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا ‏(‏21‏)‏ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏22‏)‏ إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ‏(‏23‏)‏ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ‏(‏24‏)‏ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ‏(‏25‏)‏ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ‏(‏27‏)‏ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ‏}‏ عذاب ‏{‏أُرِيدَ بِمَن فِى الأرض‏}‏ بعدم استراق السمع ‏{‏أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً‏}‏ خيراً ورحمة ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الصالحون‏}‏ الأبرار المتقون ‏{‏وَمِنَّا‏}‏ قوم ‏{‏دُونِ ذَلِكَ‏}‏ فحذف الموصوف وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه أو أرادوا غير الصالحين ‏{‏كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً‏}‏ بيان للقسمة المذكورة أي كنا ذوي مذاهب متفرقة أو أديان مختلفة‏.‏ والقدد جمع قدة وهي القطعة من قددت السير أي قطعته ‏{‏وَأَنَّا ظَنَنَّا‏}‏ أيقنا ‏{‏أَن لَّن نُّعْجِزَ الله‏}‏ لن نفوته ‏{‏فِى الأرض‏}‏ حال أي لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها ‏{‏وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً‏}‏ مصدر في موضع الحال أي ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء، وهذه صفة الجن وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم ‏{‏وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى‏}‏ القرآن ‏{‏ءَامَنَّا بِهِ‏}‏ بالقرآن أو بالله ‏{‏فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ‏}‏ فهو لا يخاف مبتدأ وخبر ‏{‏بَخْساً‏}‏ نقصاً من ثوابه ‏{‏وَلاَ رَهَقاً‏}‏ أي ولا ترهقه ذلة من قوله‏:‏ ‏{‏وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 27‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وفيه دليل على أن العمل ليس من الإيمان ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا المسلمون‏}‏ المؤمنون ‏{‏وَمِنَّا القاسطون‏}‏ الكافرون الجائرون عن طريق الحق، قسط‏:‏ جار وأقسط عدل ‏{‏فَمَنْ أَسْلَمَ فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً‏}‏ طلبوا هدى والتحري طلب الأحرى أي الأولى ‏{‏وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ‏}‏ في علم الله ‏{‏لِجَهَنَّمَ حَطَباً‏}‏ وقوداً، وفيه دليل على أن الجني الكافر يعذب في النار ويتوقف في كيفية ثوابهم ‏{‏وَأَنْ‏}‏ مخففة من الثقيلة يعني وأنه وهي من جملة الموحى أي أوحى إلى أن الشأن ‏{‏لَوْ استقاموا‏}‏ أي القاسطون ‏{‏عَلَى الطريقة‏}‏ طريقة الإسلام ‏{‏لأسقيناهم مَّاءً غَدَقاً‏}‏ كثيراً، والمعنى لوسعنا عليهم الرزق، وذكر الماء الغدق لأنه سبب سعة الرزق‏.‏

‏{‏لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏ لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خولوا منه ‏{‏وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ‏}‏ القرآن أو التوحيد أو العبادة ‏{‏يَسْلُكْهُ‏}‏ بالياء‏:‏ عراقي غير أبي بكر يدخله ‏{‏عَذَاباً صَعَداً‏}‏ شاقاً مصدر صعد يقال‏:‏ صعد صعداً وصعوداً، فوصف به العذاب لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه، ومنه قول عمر رضي الله عنه‏:‏ ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح‏.‏ أي ما شق عليّ‏.‏

‏{‏وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ‏}‏ من جملة الموحى أي أوحي إلى أن المساجد أي البيوت المبنية للصلاة فيها لله‏.‏ وقيل‏:‏ معناه ولأن المساجد لله فلا تدعوا على أن اللام متعلقة ب ‏{‏لاَّ تَدْعُواْ‏}‏ أي ‏{‏فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً‏}‏ في المساجد لأنها خالصة لله ولعبادته‏.‏

وقيل‏:‏ المساجد أعضاء السجود وهي الجبهة واليدان والركبتان والقدمان ‏{‏وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله‏}‏ محمد عليه السلام إلى الصلاة وتقديره وأوحي إلى أنه لما قام عبد الله ‏{‏يَدْعُوهُ‏}‏ يعبده ويقرأ القرآن ولم يقل نبي الله أو رسول الله لأنه من أحب الأسماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه لما كان واقعاً في كلامه صلى الله عليه وسلم عن نفسه جيء به على ما يقتضيه التواضع، أو لأن عبادة عبد الله لله ليست بمستبعد حتى يكونوا عليه لبداً ‏{‏كَادُواْ‏}‏ كاد الجن ‏{‏يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً‏}‏ جماعات جمع لبدة تعجباً مما رأوا من عبادته واقتداء أصحابه به وإعجاباً بما تلاه من القرآن لأنهم رأوا ما لم يروا مثله ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبّى‏}‏ وحده ‏{‏قَالَ‏}‏ غير عاصم وحمزة ‏{‏وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً‏}‏ في العبادة فلم تتعجبون وتزدحمون علي‏؟‏ ‏{‏قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً‏}‏ مضرة ‏{‏وَلاَ رَشَداً‏}‏ نفعاً، أو أراد بالضر الغي بدليل قراءة أبي ‏{‏غَيّاً وَلاَ رَشَداً‏}‏ يعني لا أستطيع أن أضركم وأن أنفعكم لأن الضار والنافع هو الله‏.‏

‏{‏قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ الله أَحَدٌ‏}‏ لن يدفع عني عذابه أحد إن عصيته كقول صالح عليه السلام‏:‏ ‏{‏فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 63‏]‏ ‏{‏وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً‏}‏ ملتجأ‏.‏

‏{‏إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله‏}‏ استثناء من ‏{‏لا أَمْلِكُ‏}‏ أي لا أملك لكم ضراً ولا رشداً إلا بلاغاً من الله و‏{‏قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى‏}‏ اعتراض لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏بَلاَغاً‏}‏ بدل من ‏{‏مُلْتَحَدًا‏}‏ أي لن أجد من دونه منجى إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به يعني لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت به فإن ذلك ينجيني‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هذا شرط وجزاء وليس باستثناء و«إن» منفصلة من «لا» وتقديره‏:‏ أن لا أبلغ بلاغاً أي إن لم أبلغ لم أجد من دونه ملتجأ ولا مجيراً لي كقولك إن لا قياماً فقعوداً، والبلاغ في هذه الوجوه بمعنى التبليغ ‏{‏ورسالاته‏}‏ عطف على ‏{‏بَلاَغاً‏}‏ كأنه قيل‏:‏ لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات أي إلا أن أبلغ عن الله فأقول قال الله كذا ناسباً لقوله إليه، وأن أبلغ رسالته التي أرسلني بها بلا زيادة ونقصان‏.‏ و«من» ليست بصلة للتبليغ لأنه يقال‏:‏ بلّغ عنه، إنما هي بمنزلة «من» في ‏{‏بَرَاءةٌ مّنَ الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 1‏]‏ أي بلاغاً كائناً من الله‏.‏

‏{‏وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ في ترك القبول، لما أنزل على الرسول لأنه ذكر على أثر تبليغ الرسالة ‏{‏فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا أَبَداً‏}‏ وحد في قوله ‏{‏لَهُ‏}‏ وجمع في ‏{‏خالدين‏}‏ للفظ من ومعناه ‏{‏حتى‏}‏ يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال كأنه قيل‏:‏ لا يزالون على ما هم عليه حتى ‏{‏إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ‏}‏ من العذاب ‏{‏فَسَيَعْلَمُونَ‏}‏ عند حلول العذاب بهم ‏{‏مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً‏}‏ أهم أم المؤمنون‏؟‏ أي الكافر لا ناصر له يومئذ والمؤمن ينصره الله وملائكته وأنبياؤه ‏{‏قُلْ إِنْ أَدْرِى‏}‏ ما أدري ‏{‏أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ‏}‏ من العذاب ‏{‏أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى‏}‏ وبفتح الياء‏:‏ حجازي وأبو عمرو ‏{‏أَمَدًا‏}‏ غاية بعيدة يعني أنكم تعذبون قطعاً ولكن لا أدري أهو حالّ أم مؤجل ‏{‏عالم الغيب‏}‏ هو خبر مبتدأ أي هو عالم الغيب ‏{‏فَلاَ يُظْهِرُ‏}‏ فلا يطلع ‏{‏على غَيْبِهِ أَحَداً‏}‏ من خلقه ‏{‏إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ‏}‏ إلا رسولاً قد ارتضاه لعلم بعض الغيب ليكون إخباره عن الغيب معجزة له فإن يطلعه على غيبة ما شاء‏.‏

و ‏{‏مِن رَّسُولٍ‏}‏ بيان ل ‏{‏مَنِ ارتضى‏}‏ والولي إذا أخبر بشيء فظهر فهو غير جازم عليه، ولكنه أخبر بناء على رؤياه أو بالفراسة على أن كل كرامة للولي فهي معجزة للرسول‏.‏ وذكر في التأويلات قال بعضهم في هذه الآية بدلالة تكذيب المنجمة وليس كذلك فإن فيهم من يصدق خبره، وكذلك المتطببة يعرفون طبائع النبات وذا لا يعرف بالتأمل فعلم بأنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره وبقي علمه في الخلق‏.‏

‏{‏فَإِنَّهُ يَسْلُكُ‏}‏ يدخل ‏{‏مِن بَيْنِ يَدَيْهِ‏}‏ يدي رسول ‏{‏وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً‏}‏ حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم وتخاليطهم حتى يبلغ الوحي ‏{‏لِيَعْلَمَ‏}‏ الله ‏{‏أَن قَدْ أَبْلَغُواْ‏}‏ أي الرسل ‏{‏رسالات رَبِّهِمْ‏}‏ كاملة بلا زيادة ولا نقصان إلى المرسل إليهم أي ليعلم الله ذلك موجوداً حال وجوده كما كان يعلم ذلك قبل وجوده أنه يوجد، وحد الضمير في ‏{‏مِن بَيْنِ يَدَيْهِ‏}‏ للفظ «من»، وجمع في ‏{‏أَبْلَغُواْ‏}‏ لمعناه ‏{‏وَأَحَاطَ‏}‏ الله ‏{‏بِمَا لَدَيْهِمْ‏}‏ بما عند الرسل من العلم ‏{‏وأحصى كُلَّ شَئ عَدَداً‏}‏ من القطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحار، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه‏؟‏ و‏{‏عَدَدًا‏}‏ حال أي وعلم كل شيء معدوداً محصوراً أو مصدر في معنى إحصاء، والله أعلم‏.‏

سورة المزمل

مكية وهي تسع عشرة آية بصري وثمان عشرة شامي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 13‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ‏(‏1‏)‏ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏2‏)‏ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ‏(‏3‏)‏ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ‏(‏7‏)‏ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ‏(‏8‏)‏ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ‏(‏9‏)‏ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ‏(‏10‏)‏ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ‏(‏11‏)‏ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا ‏(‏12‏)‏ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا المزمل‏}‏ أي المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف بها بإدغام التاء في الزاي‏.‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم نائماً بالليل متزملاً في ثيابه فأمر بالقيام للصلاة بقوله ‏{‏قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ‏}‏ بدل من ‏{‏اليل‏}‏ و‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ استثناء من قوله ‏{‏نّصْفَهُ‏}‏ تقديره‏:‏ قم نصف الليل إلا قليلاً من نصف الليل ‏{‏أَوِ انقص مِنْهُ‏}‏ من النصف‏.‏ بضم الواو‏:‏ غير عاصم وحمزة ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ إلى الثلث ‏{‏أَوْ زِدْ عَلَيْهِ‏}‏ على النصف إلى الثلثين، والمراد التخيير بين أمرين بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه، وإن جعلت ‏{‏نِّصْفَهُ‏}‏ بدلاً من ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ كان مخيراً بين ثلاثة أشياء‏:‏ بين قيام نصف الليل تاماً، وبين قيام الناقص منه، وبين قيام الزائد عليه‏.‏ وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل وإلا فإطلاق لفظ القليل ينطلق على ما دون النصف ولهذا قلنا‏:‏ إذا أقرّ أن لفلان عليه ألف درهم إلا قليلاً أنه يلزمه أكثر من نصف الألف ‏{‏وَرَتّلِ القرءان‏}‏ بين وفصل من الثغر المرتل أي المفلج الأسنان، وكلام رَتَلٌ بالتحريك أي مرتل، وثغر رتل أيضاً إذا كان مستوي البنيان‏.‏ أو اقرأ على تؤدة بتبيين الحروف وحفظ الوقوف وإشباع الحركات ‏{‏تَرْتِيلاً‏}‏ هو تأكيد في إيجاب الأمر به وأنه لا بد منه للقارئ ‏{‏إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ‏}‏ سننزل عليك ‏{‏قَوْلاً ثَقِيلاً‏}‏ أي القرآن لما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين، أو ثقيلاً على المنافقين، أو كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف الخفيف‏.‏

‏{‏إِنَّ نَاشِئَةَ اليل‏}‏ بالهمزة‏:‏ سوى ورش‏:‏ قيام الليل‏.‏ عن ابن مسعود رضي الله عنه‏.‏ فهي مصدر من نشأ إذا قام ونهض على فاعلة كالعافية، أو العبادة التي تنشأ بالليل أي تحدث، أو ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة فساعة، وكان زين العابدين رضي الله عنه يصلي بين العشاءين ويقول هذه ناشئة الليل ‏{‏هِىَ أَشَدُّ‏}‏ ‏{‏وطاءً‏}‏ ‏{‏وفاقا‏}‏ شامي وأبو عمرو أي يواطيء فيها قلب القائم لسانه‏.‏ وعن الحسن‏:‏ أشد موافقة بين السر والعلانية لانقطاع رؤية الخلائق‏.‏ وغيرهما ‏{‏وَطْأ‏}‏ أي أثقل على المصلي من صلاة النهار لطرد النوم في وقته من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم اشدد وطأتك على مضر» ‏{‏وَأَقْوَمُ قِيلاً‏}‏ وأشد مقالاً وأثبت قراءة لهدوء الأصوات وانقطاع الحركات ‏{‏إِنَّ لَكَ فِى النهار سَبْحَاً طَوِيلاً‏}‏ تصرفاً وتقلباً في مهماتك وشواغلك ففرّغ نفسك في الليل لعبادة ربك أو فراغاً طويلاً لنومك وراحتك ‏{‏واذكر اسم رَبِّكَ‏}‏ ودم على ذكره في الليل والنهار، وذكر الله يتناول التسبيح والتهليل والتكبير والصلاة وتلاوة القرآن ودراسة العلم ‏{‏وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ‏}‏ انقطع إلى عبادته عن كل شيء‏.‏

والتبتل‏:‏ الانقطاع إلى الله تعالى بتأميل الخير منه دون غيره‏.‏ وقيل‏:‏ رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله ‏{‏تَبْتِيلاً‏}‏ في اختلاف المصدر زيادة تأكيد أي بتّلك الله فتبتل تبتيلاً أو جيء به مراعاة لحق الفواصل‏.‏

‏{‏رَّبُّ المشرق والمغرب‏}‏ بالرفع أي هو رب أو مبتدأ خبره ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ وبالجر‏:‏ شامي وكوفي غير حفص بدل من ‏{‏رَبَّكَ‏}‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما على القسم بإضمار حرف القسم نحو‏:‏ الله لأفعلن، وجوابه لا إله إلا هو كقولك‏:‏ والله لا أحد في الدار إلا زيد ‏{‏فاتخذه وَكِيلاً‏}‏ ولياً وكفيلاً بما وعدك من النصر، أو إذا علمت أنه ملك المشرق والمغرب وأن لا إله إلا هو فاتخذه كافياً لأمورك‏.‏ وفائدة الفاء أن لا تلبث بعد أن عرفت في تفويض الأمور إلى الواحد القهار إذ لا عذر لك في الانتظار بعد الإقرار‏.‏

‏{‏واصبر على مَا يَقُولُونَ‏}‏ فيّ من الصاحبة والولد وفيك من الساحر والشاعر ‏{‏واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً‏}‏ جانبهم بقلبك وخالفهم مع حسن المحافظة وترك المكافأة‏.‏ وقيل‏:‏ هو منسوخ بآية القتال ‏{‏وَذَرْنِى‏}‏ أي كِلْهم إليّ فأنا كافيهم ‏{‏والمكذبين‏}‏ رؤساء قريش مفعول معه أو عطف على ‏{‏ذَرْنِى‏}‏ أي دعني وإياهم ‏{‏أُوْلِى النعمة‏}‏ التنعم وبالكسر الإنعام وبالضم المسرة ‏{‏وَمَهِّلْهُمْ‏}‏ إمهالاً ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ إلى يوم بدر أو إلى يوم القيامة ‏{‏إِنَّ لَدَيْنَا‏}‏ للكافرين في الآخرة ‏{‏أَنكَالاً‏}‏ قيوداً ثقالاً جمع نِكْل ‏{‏وَجَحِيماً‏}‏ ناراً محرقة ‏{‏وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ‏}‏ أي الذي ينشب في الحلوق فلا ينساغ يعني الضريع والزقوم ‏{‏وَعَذَاباً أَلِيماً‏}‏ يخلص وجعه إلى القلب‏.‏ ورُوي «أنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فصعق» وعن الحسن أنه أمسى صائماً فأتي بطعام فعرضت له هذه الآية فقال‏:‏ ارفعه‏.‏ ووضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال‏:‏ ارفعه، وكذلك الليلة الثالثة فأخبر ثابت البناني وغيره فجاءوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 20‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا ‏(‏14‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ‏(‏16‏)‏ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ‏(‏17‏)‏ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ‏(‏18‏)‏ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏19‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ‏}‏ منصوب بما في ‏{‏لَدَيْنَا‏}‏ من معنى الفعل أي استقر للكفار لدينا كذا وكذا يوم ‏{‏تَرْجُفُ الأرض والجبال‏}‏ أي تتحرك حركة شديدة ‏{‏وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً‏}‏ رملاً مجتمعاً من كثب الشيء إذا جمعه كأنه فعيل بمعنى مفعول ‏{‏مَّهِيلاً‏}‏ سائلاً بعد اجتماعه ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ‏}‏ يا أهل مكة ‏{‏رَسُولاً‏}‏ يعني محمداً عليه السلام ‏{‏شاهدا عَلَيْكُمْ‏}‏ يشهد عليكم يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم ‏{‏كَمَا أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً‏}‏ يعني موسى عليه السلام ‏{‏فعصى فِرْعَوْنُ الرسول‏}‏ أي ذلك الرسول «إذ» النكرة وإذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول ‏{‏فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً‏}‏ شديداً غليظاً‏.‏ وإنما خص موسى وفرعون لأن خبرهما كان منتشراً بين أهل مكة لأنهم كانوا جيران اليهود ‏{‏فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً‏}‏ هو مفعول ‏{‏تَتَّقُونَ‏}‏ أي كيف تتقون عذاب يوم كذا إن كفرتم‏؟‏ أو ظرف أي فكيف لكم التقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا‏؟‏ أو منصوب ب ‏{‏كَفَرْتُمْ‏}‏ على تأويل جحدتم أي كيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء لأن تقوى الله خوف عقابه ‏{‏يَجْعَلُ الولدان‏}‏ صفة ل ‏{‏يَوْماً‏}‏ والعائد محذوف أي فيه ‏{‏شِيباً‏}‏ من هوله وشدته وذلك حين يقال لآدم عليه السلام‏:‏ قم فابعث بعث النار من ذريتك وهو جمع أشيب‏.‏ وقيل‏:‏ هو على التمثيل للتهويل يقال لليوم الشديد‏:‏ يوم يشيب نواصي الأطفال‏.‏

‏{‏السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ‏}‏ وصف لليوم بالشدة أيضاً أي السماء على عظمها وإحكامها تنفطر به أي تنشق فما ظنك بغيرها من الخلائق‏؟‏ والتذكير على تأويل السماء بالسقف أو السماء شيء منفطر، وقوله ‏{‏بِهِ‏}‏ أي بيوم القيامة يعني أنها تنفطر لشدة ذلك اليوم وهوله كما ينفطر الشيء بما يفطر به ‏{‏كَانَ وَعْدُهُ‏}‏ المصدر مضاف إلى المفعول وهو اليوم، أو إلى الفاعل وهو الله عز وجل ‏{‏مَفْعُولاً‏}‏ كائناً ‏{‏إِنَّ هذه‏}‏ الآيات الناطقة بالوعيد ‏{‏تَذْكِرَةٌ‏}‏ موعظة ‏{‏فَمَن شَاءَ اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً‏}‏ أي فمن شاء اتعظ بها واتخذ سبيلاً إلى الله بالتقوى والخشية‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى‏}‏ أقل فاستعير الأدنى وهو الأقرب للأقل لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز، وإذا بعدت كثر ذلك ‏{‏مِن ثُلُثَىِ اليل‏}‏ بضم اللام‏:‏ سوى هشام ‏{‏وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ‏}‏ منصوبان عطف على ‏{‏أدنى‏}‏ مكي وكوفي، ومن جرهما عطف على ‏{‏مِن ثُلُثَىِ‏}‏ ‏{‏وَطَائِفَةٌ‏}‏ عطف على الضمير في ‏{‏تَقُومُ‏}‏ وجاز بلا توكيد لوجود الفاصل ‏{‏مِّنَ الذين مَعَكَ‏}‏ أي ويقوم ذلك المقدار جماعة من أصحابك ‏{‏والله يقدراليل والنهار‏}‏ أي ولا يقدر على تقدير الليل والنهار ولا يعلم مقادير ساعاتهما إلا الله وحده‏.‏

وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنياً عليه ‏{‏يقدر‏}‏ هو الدال على أنه مختص بالتقدير، ثم إنهم قاموا حتى انتفخت أقدامهم فنزل ‏{‏عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ‏}‏ لن تطيقوا قيامه على هذه المقادير إلا بشدة ومشقة وفي ذلك حرج ‏{‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ فخفف عليكم وأسقط عنكم فرض قيام الليل ‏{‏فاقرءوا‏}‏ في الصلاة والأمر للوجوب أو في غيرها والأمر للندب ‏{‏مَا تَيَسَّرَ‏}‏ عليكم ‏{‏مِنَ القرءان‏}‏ روى أبو حنيفة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال‏:‏ من قرأ مائة آية في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائتي آية كتب من القانتين‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالقرآن الصلاة لأنه بعض أركانها أي فصلوا ما تيسر عليكم ولم يتعذر من صلاة الليل وهذا ناسخ للأول، ثم نسخ هذا بالصلوات الخمس، ثم بين الحكمة في النسخ وهي تعذر القيام على المرضى والمسافرين والمجاهدين فقال ‏{‏عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ‏}‏ أي أنه مخففة من الثقيلة والسين بدل من تخفيفها وحذف اسمها ‏{‏مَّرْضَى‏}‏ فيشق عليهم قيام الليل‏.‏

‏{‏وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأرض‏}‏ يسافرون ‏{‏يَبْتَغُونَ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يَضْرِبُونَ‏}‏ ‏{‏مِن فَضْلِ الله‏}‏ رزقه بالتجارة أو طلب العلم ‏{‏وَءاخَرُونَ يقاتلون فِى سَبِيلِ الله‏}‏ سوّى بين المجاهد والمكتسب لأن كسب الحلال جهاد‏.‏ قال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء‏.‏ وقال ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليّ من أن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله ‏{‏فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ‏}‏ كرر الأمر بالتيسير لشدة احتياطهم ‏{‏وَأَقِيمُواْ الصلاوة‏}‏ المفروضة ‏{‏وَءَاتُواْ الزكواة‏}‏ الواجبة ‏{‏وَأَقْرِضُواُ الله‏}‏ بالنوافل‏.‏ والقرض لغة‏:‏ القطع فالمقرض يقطع ذلك القدر من ماله فيدفعه إلى غيره، وكذا المتصدق يقطع ذلك القدر من ماله فيجعله لله تعالى، وإنما أضافه إلى نفسه لئلا يمن على الفقير فيما تصدق به عليه وهذا لأن الفقير معاون له في تلك القربة فلا يكون له عليه منة بل المنة للفقير عليه ‏{‏قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ من الحلال بالاخلاص ‏{‏وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ‏}‏ أي ثوابه وهو جزاء الشرط ‏{‏عِندَ الله هُوَ خَيْراً‏}‏ مما خلفتم وتركتم فالمفعول الثاني ل ‏{‏تَجِدُوهُ‏}‏ ‏{‏خيراً‏}‏ و‏{‏هُوَ‏}‏ فصل‏.‏ وجاز وإن لم يقع بين معرفتين لأن أفعل من أشبه المعرفة لامتناعه من حرف التعريف ‏{‏وَأَعْظَمَ أَجْراً‏}‏ وأجزل ثواباً ‏{‏واستغفروا الله‏}‏ من السيئات والتقصير في الحسنات ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ يستر على أهل الذنب والتقصير ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ يخفف عن أهل الجهد والتوفيق وهو على ما يشاء قدير، والله أعلم‏.‏

سورة المدثر

مكية وهي ست وخمسون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 25‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ‏(‏1‏)‏ قُمْ فَأَنْذِرْ ‏(‏2‏)‏ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ‏(‏3‏)‏ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ‏(‏4‏)‏ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ‏(‏5‏)‏ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ‏(‏6‏)‏ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ‏(‏8‏)‏ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ‏(‏9‏)‏ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ‏(‏10‏)‏ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ‏(‏11‏)‏ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا ‏(‏12‏)‏ وَبَنِينَ شُهُودًا ‏(‏13‏)‏ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ‏(‏14‏)‏ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ‏(‏15‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا ‏(‏16‏)‏ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ‏(‏17‏)‏ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ‏(‏18‏)‏ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏19‏)‏ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏20‏)‏ ثُمَّ نَظَرَ ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ‏(‏22‏)‏ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ‏(‏24‏)‏ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «كنت على جبل حراء‏:‏ فنوديت يا محمد إنك رسول الله‏.‏ فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئاً، فنظرت إلى فوقي فإذا هو قاعد على عرش بين السماء والأرض يعني الملك الذي ناداه فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت‏:‏ دثروني دثروني» فدثرته خديجة فجاء جبريل وقرأ ‏{‏ياأيها المدثر‏}‏ أي المتلفف بثيابه من الدثار وهو كل ما كان من الثياب فوق الشعار‏.‏ والشعار‏:‏ الثوب الذي يلي الجسد وأصله المتدثر فأدغم ‏{‏قُمْ‏}‏ من مضجعك أو قم قيام عزم وتصميم ‏{‏فَأَنذِرْ‏}‏ فحذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا، أو فافعل الإنذار من غير تخصيص له بأحد‏.‏ وقيل‏:‏ سمع من قريش ما كرهه فاغتم فتغطى بثوبه مفكراً كما يفعل المغموم فقيل له‏:‏ يا أيها الصارف أذى الكفار عن نفسك بالدثار، قم فاشتغل بالأنذار وإن آذاك الفجار ‏{‏وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ‏}‏ واختص ربك بالتكبير وهو التعظيم أي لا يكبر في عينك غيره وقل عندما يعروك من غير الله‏:‏ الله أكبر‏.‏ ورُوي أنه لما نزل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الله أكبر» فكبرت خديجة وفرحت وأيقنت أنه الوحي، وقد يحمل على تكبير الصلاة‏.‏ ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل‏:‏ وما كان فلا تدع تكبيره‏.‏

‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ بالماء من النجاسة لأن الصلاة لا تصح إلا بها وهي الأولى في غير الصلاة، أو فقصر مخالفة للعرب في تطويلهم الثياب وجرّهم الذيول إذ لا يؤمن معه إصابة النجاسة، أو طهر نفسك مما يستقذر من الأفعال يقال‏:‏ فلان طاهر الثياب إذا وصفوه بالنقاء من المعايب، وفلان دنس الثياب للغادر ولأن من طهر باطنه يطهر ظاهره ظاهراً ‏{‏والرجز‏}‏ بضم الراء‏:‏ يعقوب وسهل وحفص، وغيرهم بالكسر العذاب والمراد ما يؤدي إليه ‏{‏فاهجر‏}‏ أي أثبت على هجره لأنه كان بريئاً منه ‏{‏وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ‏}‏ بالرفع وهو منصوب المحل على الحال أي لا تعط مستكثراً رائياً لما تعطيه كثيراً أو طالباً أكثر مما أعطيت فإنك مأمور بأجلّ الأخلاق وأشرف الآداب، وهو من منّ عليه إذا أنعم عليه‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏تَسْتَكْثِرُ‏}‏ بالسكون جواباً للنهي ‏{‏وَلِرَبِّكَ فاصبر‏}‏ ولوجه الله فاستعمل الصبر على أوامره ونواهيه وكل مصبور عليه ومصبور عنه ‏{‏فَإِذَا نُقِرَ فِى الناقور‏}‏ نفخ في الصور وهي النفخة الأولى وقيل الثانية ‏{‏فذلك‏}‏ إشارة إلى وقت النقر وهو مبتدأ ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ مرفوع المحل بدل من ‏{‏ذلك‏}‏ ‏{‏يَوْمٌ عَسِيرٌ‏}‏ خبر كأنه قيل‏:‏ فيوم النقر يوم عسير‏.‏

والفاء في ‏{‏فَإِذَا‏}‏ للتسبيب وفي ‏{‏فَذَلِكَ‏}‏ للجزاء كأنه قيل‏:‏ اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك عليه‏.‏ والعامل في ‏{‏فَإِذَا‏}‏ ما دل عليه الجزاء أي فإذا نقر في الناقور عسر الأمر ‏{‏عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ‏}‏ وأكد بقوله ‏{‏غَيْرُ يَسِيرٍ‏}‏ ليؤذن بأنه يسير على المؤمنين أو عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا‏.‏

‏{‏ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ‏}‏ أي كله إليّ يعني الوليد بن المغيرة وكان يلقب في قومه بالوحيد و‏{‏مِنْ خلقت‏}‏ معطوف أو مفعول معه ‏{‏وَحِيداً‏}‏ حال من الياء في ‏{‏ذَرْنِى‏}‏ أي ذرني وحدي معه فإني أكفيك أمره، أو من التاء في ‏{‏خلقت‏}‏ أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد، أو من الهاء المحذوفة، أو من أي خلقته منفرداً بلا أهل ولا مال ثم أنعمت عليه ‏{‏وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً‏}‏ مبسوطاً كثيراً أو ممدوداً بالنماء وكان له الزرع والضرع والتجارة‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ كان له مائة ألف دينار‏.‏ وعنه أن له أرضاً بالطائف لا ينقطع ثمرها ‏{‏وَبَنِينَ شُهُوداً‏}‏ حضوراً معه بمكة لغناهم عن السفر وكانوا عشرة أسلم منهم خالد وهشام وعمارة ‏{‏وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً‏}‏ وبسطت له الجاه والرياسة فأتممت عليه نعمتي الجاه والمال واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا ‏{‏ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ‏}‏ استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه فيرجو أن أزيد في ماله وولده من غير شكر‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أن أزيد أن أدخله الجنة فأوتيه مالاً وولداً كما قال ‏{‏لأوتين مالاً وولداً‏}‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 77‏]‏ ردع له وقطع لرجائه أي لا يجمع له بعد اليوم بين الكفر والمزيد من النعم، فلم يزل بعد نزول الآية في نقصان من المال والجاه حتى هلك ‏{‏إِنَّهُ كان لآياتنا‏}‏ للقرآن ‏{‏عَنِيداً‏}‏ معانداً جاحداً وهو تعليل للردع على وجه الاستئناف كأن قائلاً قال‏:‏ لم لا يزاد‏؟‏ فقيل‏:‏ إنه جحد آيات المنعم وكفر بذلك نعمته والكافر لا يستحق المزيد ‏{‏سَأُرْهِقُهُ‏}‏ سأغشيه ‏{‏صَعُوداً‏}‏ عقبة شاقة المصعد وفي الحديث ‏"‏ الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي فيه كذلك أبد ‏"‏ ‏{‏إِنَّهُ فَكَّرَ‏}‏ تعليل للوعيد كأن الله تعالى عاجله بالفقر والذل بعد الغنى والعز لعناده، ويعاقبه في الآخرة بأشد العذاب لبلوغه بالعناد غايته، وتسميته القرآن سحراً يعني أنه فكر ماذا يقول في القرآن ‏{‏وَقَدَّرَ‏}‏ في نفسه ما يقوله وهيأه‏.‏

‏{‏فَقُتِلَ‏}‏ لعن ‏{‏كَيْفَ قَدَّرَ‏}‏ تعجيب من تقديره ‏{‏ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ‏}‏ كرر للتأكيد و«ثم» يشعر بأن الدعاء الثاني أبلغ من الأول ‏{‏ثُمَّ نَظَرَ‏}‏ في وجوه الناس أو فيما قدر ‏{‏ثُمَّ عَبَسَ‏}‏ قطب وجهه ‏{‏وَبَسَرَ‏}‏ زاد في التقبض والكلوح ‏{‏ثُمَّ أَدْبَرَ‏}‏ عن الحق ‏{‏واستكبر‏}‏ عنه أو عن مقامه وفي مقاله‏.‏

و ‏{‏ثُمَّ نَظَرَ‏}‏ عطف على ‏{‏فَكَّرَ وَقَدَّرَ‏}‏ والدعاء اعتراض بينهما، وإيراد «ثم» في المعطوفات لبيان أن بين الأفعال المعطوفة تراحياً ‏{‏فَقَالَ إِنْ هذا‏}‏ ما هذا ‏{‏إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ‏}‏ يروى عن السحرة‏.‏ رُوي أن الوليد قال لبني مخزوم‏:‏ والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى‏.‏ فقالت قريش‏:‏ صبأ والله الوليد‏.‏ فقال أبو جهل وهو ابن أخيه‏:‏ أنا أكفيكموه، فقعد إليه حزيناً وكلمه بما أحماه فقام الوليد، فأتاهم فقال‏:‏ تزعمون أن محمداً مجنون فهل رأيتموه يخنق‏؟‏ وتقولون إنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن‏؟‏ وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قط‏؟‏ وتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب‏؟‏ فقالوا في كل ذلك‏:‏ اللهم لا‏.‏ ثم قالوا‏:‏ فما هو‏؟‏ ففكر فقال‏:‏ ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه‏؟‏ وما الذي يقوله إلا سحر يؤثر عن مسيلمة وأهل بابل، فارتج النادي فرحاً وتفرقوا متعجبين منه‏.‏ وذكر الفاء دليل على أن هذه الكلمة لما خطرت بباله نطق بها من غير تلبث ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ البشر‏}‏ ولم يذكر العاطف بين هاتين الجملتين لأن الثانية جرت مجرى التوكيد للأولى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 56‏]‏

‏{‏سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ‏(‏26‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ‏(‏27‏)‏ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ‏(‏28‏)‏ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ‏(‏29‏)‏ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ‏(‏30‏)‏ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ‏(‏31‏)‏ كَلَّا وَالْقَمَرِ ‏(‏32‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ‏(‏33‏)‏ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ‏(‏34‏)‏ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ‏(‏35‏)‏ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ‏(‏36‏)‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ‏(‏37‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ‏(‏38‏)‏ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ‏(‏39‏)‏ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏40‏)‏ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏41‏)‏ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ‏(‏42‏)‏ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ‏(‏43‏)‏ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ‏(‏44‏)‏ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ‏(‏45‏)‏ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏46‏)‏ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ‏(‏47‏)‏ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ‏(‏48‏)‏ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ‏(‏49‏)‏ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ‏(‏50‏)‏ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ‏(‏51‏)‏ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ‏(‏52‏)‏ كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏53‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ‏(‏54‏)‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏55‏)‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏سَأُصْلِيهِ‏}‏ سأدخله بدل من ‏{‏سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً‏}‏ ‏{‏سَقَرَ‏}‏ علم لجهنم ولم ينصرف للتعريف والتأنيث ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ‏}‏ تهويل لشأنها ‏{‏لاَ تُبْقِى‏}‏ أي هي لا تبقى لحماً ‏{‏وَلاَ تَذَرُ‏}‏ عظماً أو لا تبقى شيئاً يبقى فيها إلا أهلكته ولا تذره هالكاً بل يعود كما كان ‏{‏لَوَّاحَةٌ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هي لواحة ‏{‏لِّلْبَشَرِ‏}‏ جمع بشرة وهي ظاهرة الجلد أي مسوّدة للجلود ومحرقة لها ‏{‏عَلَيْهَا‏}‏ على سقر ‏{‏تِسْعَةَ عَشَرَ‏}‏ أي يلي أمرها تسعة عشر ملكاً عند الجمهور‏.‏ وقيل‏:‏ صنفاً من الملائكة‏.‏ وقيل‏:‏ صفاً‏.‏ وقيل‏:‏ نقيباً ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار‏}‏ أي خزنتها ‏{‏إِلاَّ ملائكة‏}‏ لأنهم خلاف جنس المعذبين فلا تأخذهم الرأفة والرقة لأنهم أشد الخلق بأساً فللواحد منهم قوة الثقلين‏.‏

‏{‏وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ‏}‏ تسعة عشر ‏{‏إِلاَّ فِتْنَةً‏}‏ أي ابتلاء واختبار ‏{‏لِلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ حتى قال أبو جهل‏:‏ لما نزلت ‏{‏عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ‏}‏ أما يستطيع كل عشر منكم أن يأخذوا واحداً منهم وأنتم الدهم، فقال أبو الأشد وكان شديد البطش‏:‏ أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين فنزلت ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار إِلاَّ ملائكة‏}‏ أي وما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون‏.‏ وقالوا‏:‏ في تخصيص الخزنة بهذا العدد مع أنه لا يطلب في الأعداد العلل أن ستة منهم يقودون الكفرة إلى النار، وستة يسوقونهم، وستة يضربونهم بمقامع الحديد، والآخر خازن جهنم وهو مالك وهو الأكبر‏.‏ وقيل‏:‏ في سقر تسعة عشر دركاً وقد سلط على كل درك ملك‏.‏ وقيل‏:‏ يعذب فيها بتسعة عشر لوناً من العذاب وعلى كل لون ملك موكل‏.‏ وقيل‏:‏ إن جهنم تحفظ بما تحفظ به الأرض من الجبال وهي تسعة عشر وإن كان أصلها مائة وتسعين إلا أن غيرها يشعب عنها ‏{‏لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ لأن عدتهم تسعة عشر في الكتابين فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنه منزل من الله ‏{‏وَيَزْدَادَ الذين ءَامَنُواْ‏}‏ بمحمد وهو عطف على ‏{‏لِيَسْتَيْقِنَ‏}‏ ‏{‏إيمانا‏}‏ لتصديقهم بذلك كما صدقوا سائر ما أنزل، أو يزدادوا يقيناً لموافقة كتابهم كتاب أولئك ‏{‏وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون‏}‏ هذا عطف أيضاً، وفيه توكيد للاستيقان وزيادة الإيمان إذ الاستيقان وازدياد الإيمان دالان على انتفاء الارتياب‏.‏ ثم عطف على ‏{‏لِيَسْتَيْقِنَ‏}‏ أيضاً‏.‏

‏{‏وَلِيَقُولَ الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ نفاق ‏{‏والكافرون‏}‏ المشركون فإن قلت‏:‏ النفاق ظهر في المدينة والسورة مكية‏.‏ قلت‏:‏ معناه وليقول المنافقون الذين يظهرون في المستقبل بالمدينة بعد الهجرة والكافرون بمكة ‏{‏مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً‏}‏ وهذا إخبار بما سيكون كسائر الإخبارات بالغيوب وذا لا يخالف كون السورة مكية‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالمرض الشك والارتياب لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين‏.‏ و‏{‏مَثَلاً‏}‏ تمييز لهذا أو حال منه كقوله‏:‏ ‏{‏هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءَايَةً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 73‏]‏ ‏[‏هود‏:‏ 64‏]‏ ولما كان ذكر العدد في غاية الغرابة وأن مثله حقيق بأن تسير به الركبان سيرها بالأمثال سمي مثلاً، والمعنى أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب، وأي معنى أراد في أن جعل الملائكة تسعة عشر لا عشرين، وغرضهم إنكاره أصلاً وأنه ليس من عند الله وأنه لو كان من عند الله لما جاء بهذا العدد الناقص ‏{‏كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاء‏}‏ الكاف نصب و«ذلك» إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهدى أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يعني إضلال المنافقين والمشركين حتى قالوا ما قالوا، وهدي المؤمنين بتصديقه، ورؤية الحكمة في ذلك يضل الله من يشاء من عباده وهو الذي علم منه اختيار الضلال ‏{‏وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ‏}‏ وهو الذي علم منه اختيار الاهتداء، وفيه دليل خلق الأفعال ووصف الله بالهداية والإضلال‏.‏ لما قال أبو جهل لعنه الله‏:‏ أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر نزل ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ‏}‏ لفرط كثرتها ‏{‏إِلاَّ هُوَ‏}‏ فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين ولكن له في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها ‏{‏وَمَا هِىَ‏}‏ متصل بوصف سقر وهي ضميرها أي وما سقر وصفتها ‏{‏إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ‏}‏ أي تذكرة للبشر أو ضمير الآيات التي ذكرت فيها‏.‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن تكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون ‏{‏والقمر‏}‏ أقسم به لعظم منافعه ‏{‏واليل إِذْ أَدْبَرَ‏}‏ نافع وحفص وحمزة ويعقوب وخلف‏.‏ وغيرهم ‏{‏إِذَا دبرٍ‏}‏ ودبر بمعنى أدبر ومعناهما ولى وذهب‏.‏ وقيل‏:‏ أدبر ولى ومضى، ودبر جاء بعد النهار ‏{‏والصبح إِذَا أَسْفَرَ‏}‏ أضاء وجواب القسم‏.‏

‏{‏إِنَّهَا‏}‏ إن سقر ‏{‏لإِحْدَى الكبر‏}‏ هي جمع الكبرى أي لإحدى البلايا أو الدواهي الكبر، ومعنى كونها إحداهن أنها من بينهن واحدة في العظم لا نظيرة لها كما تقول‏:‏ هو أحد الرجال وهي إحدى النساء ‏{‏نَذِيراً‏}‏ تمييز من ‏{‏إِحْدَى‏}‏ أي إنها لإحدى الدواهي إنذاراً كقولك‏:‏ هي إحدى النساء عفافاً‏.‏ وأبدل من ‏{‏لّلْبَشَرِ * لِمَن شَاء مّنكُمْ‏}‏ بإعادة الجار ‏{‏أَن يَتَقَدَّمَ‏}‏ إلى الخير ‏{‏أَوْ يَتَأَخَّرَ‏}‏ عنه‏.‏ وعن الزجاج‏:‏ إلى ما أمر وعما نهى‏.‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ‏}‏ هي ليست بتأنيث «رهين» في قوله ‏{‏كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 21‏]‏ لتأنيث النفس، لأنه لو قصدت الصفة لقيل رهين، لأن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم كأنه قيل‏:‏ كل نفس بما كسبت رهن، والمعنى كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك ‏{‏إِلاَّ أصحاب اليمين‏}‏ أي أطفال المسلمين لأنهم لا أعمال لهم يرهنون بها، أو إلا المسلمين فإنهم فكوا رقابهم بالطاعة كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق ‏{‏فِي جنات‏}‏ أي هم في جنات لا يكتنه وصفها ‏{‏يَتَسَاءَلُونَ عَنِ المجرمين‏}‏ يسأل بعضهم بعضاً عنهم أو يتساءلون غيرهم عنهم ‏{‏مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ‏}‏ أدخلكم فيها‏.‏

ولا يقال لا يطابق قوله ‏{‏مَا سَلَكَكُمْ‏}‏ وهو سؤال للمجرمين قوله ‏{‏يَتَسَاءلُونَ* عَنِ المجرمين‏}‏ وهو سؤال عنهم، وإنما يطابق ذلك لو قيل يتساءلون المجرمين ما سلككم، لأن ‏{‏مَا سَلَكَكُمْ‏}‏ ليس ببيان للتساؤل عنهم وإنما هو حكاية قول المسؤولين عنهم، لأن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون‏:‏ قلنا لهم ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين، إلا أنه اختصر كما هو نهج القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ «عن» زائدة‏.‏

‏{‏قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين‏}‏ أي لم نعتقد فرضيتها ‏{‏وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين‏}‏ كما يطعم المسلمون ‏{‏وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين‏}‏ الخوض‏:‏ الشروع في الباطل‏.‏ أي نقول الباطل والزور في آيات الله ‏{‏وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين‏}‏ الحساب والجزاء ‏{‏حتى أتانا اليقين‏}‏ الموت ‏{‏فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين‏}‏ من الملائكة والنبيين والصالحين لأنها للمؤمنين دون الكافرين‏.‏ وفيه دليل ثبوت الشفاعة للمؤمنين في الحديث‏:‏ ‏"‏ إن من أمتي من يدخل الجنة بشفاعته أكثر من ربيعة ومضر ‏"‏ ‏{‏فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة‏}‏ عن التذكير وهو العظة أي القرآن ‏{‏مُعْرِضِينَ‏}‏ مولين حال من الضمير نحو‏:‏ مالك قائماً ‏{‏كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ‏}‏ أي حمر الوحش حال من الضمير في ‏{‏مُعْرِضِينَ‏}‏ ‏{‏مُّسْتَنفِرَةٌ‏}‏ شديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها‏.‏ وبفتح الفاء‏:‏ مدني وشامي أي استنفرها غيرها ‏{‏فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ‏}‏ حال و«قد» معها مقدرة‏.‏ والقسورة‏:‏ الرماة أو الأسد فعولة من القسر وهو القهر والغلبة، شبهوا في إعراضهم عن القرآن واستماع الذكر بحمر جدت في نفارها‏.‏

‏{‏بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً‏}‏ قراطيس تنشر وتقرأ وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لن نتبعك حتى تأتي كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها‏:‏ من رب العالمين إلى فلان بن فلان نؤمر فيها باتباعك‏.‏ ونحوه قوله‏:‏ ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 93‏]‏ وقيل‏:‏ قالوا إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع لهم عن تلك الإرادة وزجر عن اقتراح الآيات‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة‏}‏ فلذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف ‏{‏كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ‏}‏ ردعهم عن إعراضهم عن التذكرة وقال‏:‏ إن القرآن تذكرة بليغة كافية ‏{‏فَمَن شَاء ذَكَرَهُ‏}‏ أي فمن شاء أن يذكره ولا ينساه فعل‏.‏ فإن نفع ذلك عائد إليه ‏{‏وَمَا يَذْكُرُونَ‏}‏ وبالتاء‏:‏ نافع ويعقوب ‏{‏إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله‏}‏ إلا وقت مشيئة الله وإلا بمشيئة الله ‏{‏هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة‏}‏ في الحديث‏:‏ ‏"‏ هو أهل أن يتقي وأهل أن يغفر لمن اتقاه ‏"‏ والله أعلم‏.‏